اتخذ الرئيس التونسي سعيِّد إجراءات استثنائية، لجمع كل السلطات بيده، فأحدث استقطابًا حادًّا داخليًّا وخارجيًّا بين من يعتبرها تعديًا على النظام الديمقراطي ومن يراها إجراءات ضرورية اقتضتها الأوضاع المتردية

مساء الأحد، جويلية 2021، أقدم رئيس الجمهورية التونسية، قيس سعيِّد، على اتخاذ جملة من “الإجراءات الاستثنائية” وفق تأويله للفصل 80 من الدستور التونسي، حسب ما جاء في خطاب توجه به إلى الشعب التونسي على إثر اجتماع عقده مع قيادات عسكرية وأمنية. وقد قضت هذه الإجراءات بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن كافة نوابه، وإعفاء رئيس الحكومة ومباشرة رئيس الجمهورية مهام السلطة التنفيذية. كما أعلن الرئيس توليه مسؤولية النيابة العمومية؛ ما يعني تجميع كافة السلطات في يده. ونظرًا لأثر هذه الإجراءات البالغ والمباشر على الوضع السياسي والاقتصادي وعلى مصير التجربة الديمقراطية التي نجحت تونس في الحفاظ عليها على مدى العشرية الماضية، فقد أثارت القرارات الرئاسية اهتمامًا واسعًا على الصعيدين الداخلي والخارجي.

فقد فجَّرت جدلًا حادًّا حول دستورية هذه الإجراءات، تُرجم في شكل مواقف واصطفافات سياسية بين مؤيد ومعارض. المؤيدون، عمومًا، رأوا فيها انسجامًا مع الدستور واستجابة لمطالب شعبية بالتغيير ومحاربة الفساد رفعها المحتجون خلال التحركات التي شهدتها بعض المحافظات التونسية في الخامس والعشرين من هذا الشهر. والمعارضون، عمومًا، اعتبروها خروجًا عن الدستور وانقلابًا على المسار الديمقراطي والمؤسسات المنتخبة وعلى رأسها مؤسسة البرلمان. أما الموقف الدولي، في مراكزه الأساسية، سواء على الصعيد الإقليمي أو العالمي، وإن لم يوصِّف ما جرى بالانقلاب، فقد دعا الرئيس إلى الالتزام بأحكام الدستور والعودة إلى المؤسسات الديمقراطية في أقرب الآجال. فكيف تطور الوضع السياسي إلى هذه الأزمة الحادة؟ وما محددات المواقف المختلفة إزاء هذه التدابير الاستثنائية؟ وما السيناريوهات المتوقعة لهذه التطورات في الأيام القادمة؟

خلفيات “التدابير الاستثنائية”

لا يمكن فهم الإجراءات التي أسماها الرئيس بالتدابير الاستثنائية بمعزل عن الأزمة الخانقة التي تعيشها تونس على مختلف الأصعدة والتي بلغت أوجها في الأسابيع الأخيرة مع تفشي جائحة كوفيد-19 بشكل خطير ووصول المنظومة الصحية إلى حافة الانهيار. ليست هذه الأزمة مفاجئة بل هي فصل جديد من أزمة هيكلية أعمق بدأت مع إعلان نتائج انتخابات 2019 التي أفرزت مشهدًا سياسيًّا وبرلمانيًّا متشظيًا. النظام الانتخابي المعتمد يميل إلى تشتيت الأصوات لتوسيع نطاق التمثيل، ويمنع

الأحزاب الكبيرة من الفوز بأغلبية مريحة تمكِّنها من تشكيل حكومة مستقرة قادرة على الاستمرار والإنجاز وتنفيذ برامجها. وقد زاد من حالة الهشاشة غياب أحد أركان النظام السياسي الذي أرسته الثورة، وهو المحكمة الدستورية. وقد خلق غياب هذه المؤسسة، التي رفض الرئيس سعيِّد ختم قانونها الذي صادق عليه البرلمان في ماي الماضي، فراغًا دستوريًّا أفسح المجال أمام الرئيس لتأويل الدستور تأويلًا أحادي الجانب يرجِّح الكفَّة لصالحه في أي خلاف. وكان من تجليات هذا الخلل، على سبيل المثال، رفضه أداء اليمين الدستورية لعدد من الوزراء بعد تحوير أجراه رئيس الحكومة المعفى، هشام المشيشي، ما جعل حكومته تعمل بنصف أعضائها في وضع شديد التأزم. تسبَّبت هذه العلاقات المتوترة بين رئيسي السلطة التنفيذية، ورئيس الدولة ومؤسسة البرلمان، الذي تشكِّل أغلبيته بقيادة حركة النهضة حزامًا سياسيًّا لحكومة المشيشي، من جهة أخرى، في خلق حالة من الارتباك وعدم الانسجام في عمل مؤسسات الدولة.

يُضاف إلى هذه الخلفية السياسية، تفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والفشل الذريع في مواجهة جائحة كوفيد-19، ما جعل تونس من بين أسوأ بلدان العالم على هذا الصعيد بعد أن كانت قد سجَّلت نجاحًا استثنائيًّا في مواجهتها خلال الموجة الأولى قبل نحو عام. ومع اقتراب الذكرى 64 لإعلان الجمهورية في الخامس والعشرين من جويلية شهدت العاصمة، تونس، وبعضالولايات تحركات احتجاجية اتسمت في أغلبها بالعنف، وتخلَّلتها أعمال حرق ونهب لعدد من مقرات حزب حركة النهضة. لم تكن هذه التحركات عفوية، فقد وقع الإعداد لها بشكل مكثَّف خلال الأسابيع التي سبقت ذكرى إعلان الجمهورية، واشترك في الدعوة إليها بعض الوجوه السياسية إلى جانب مجموعات من الشباب الذي ينسب نفسه إلى الرئيس، قيس سعيد، ويضع في صدارة أولوياته حل البرلمان.

سجالات الفصل 80 حول دستورية “التدابير الاستثنائية”

في مساء الخامس والعشرين من جويليو، وقبل أن تختفي مظاهر الحركة الاحتجاجية، عقد الرئيس سعيِّد اجتماعًا مع قيادات أمنية وعسكرية أعلن في خاتمته إجراءات ما سُمي بـ”الحالة الاستثنائية”. وقد استند في إعلانه تلك الإجراءات على قراءة خاصة لما آلت إليه الأوضاع تعتبر أن البلاد أمام “خطر داهم” يخوِّله تفعيل الفصل 80 من الدستور. وقد تضمنت تلك الإجراءات أربعة قرارات، أولها: تجميد كل اختصاصات المجلس النيابي، دون حلِّه، لأن الدستور لا يسمح للرئيس بحل البرلمان حتى في ظل الإجراءات الاستثنائية، بل يشترط أن يبقى المجلس في حالة انعقاد دائم أثناء تلك الفترة. وثانيها: رفع الحصانة عن كافة أعضاء المجلس النيابي والبدء بتتبع كل من تعلقت به قضايا فساد أو نحوه. وثالثها: تولي الرئيس السلطة التنفيذية وإعفاء رئيس الحكومة وتكليف شخصية أخرى بتشكيل حكومة جديدة. ورابع تلك الإجراءات: تولي الرئيس بنفسه مسؤولية النيابة العمومية.

وقد أثارت هذه القرارات الرئاسية جدلًا واسعًا بشأن دستوريتها، وما إذا كان الوضع بالفعل يستدعي تفعيل الفصل 80 من الدستور والدخول في حالة الاستثناء. ويمكن ترتيب الجدل الدائر حول قرارات الرئيس وفق ثلاثة مستويات: الشروط والإجراءات والصلاحيات. فعلى مستوى الشروط، يشترط الفصل 80 لتفعيله أن تكون البلاد بالفعل “في حالة خطر داهم مهدِّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة”. صحيح، ثمة ما يشبه الإجماع على أن تونس تمر بأزمة خانقة على جميع المستويات، ولكن تكييف هذه الأزمة على أنها “خطر داهم” يقتضي اتخاذ هذه “التدابير الاستثنائية” مثار جدل وموضع خلاف. وعلى مستوى الإجراءات، ينص الفصل 80 على ضرورة استشارة رئيسي الحكومة والبرلمان وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، قبل اتخاذ أي إجراءات استثنائية. وكان رئيس البرلمان قد صرَّح بأن رئيس الدولة لم يستشره في طبيعة الإجراءات التي ينوي اتخاذها، ولا أحد يعلم إلى حدِّ الآن ما إذا كانت استشارة رئيس الحكومة قد حصلت، فالرجل مختف منذ الخامس والعشرين من جويلية بعد حضوره إلى قصر قرطاج، وسط أنباء عن ضغوط مورست عليه وصلت حدَّ إهانته وتعنيفه جسديًّا، نفى صحتها المشيشي في بيان مكتوب لكن استمرار تواريه عن الأنظار يلقي شكوكًا على تمتعه بحرية التصرف. أما إعلام رئيس المحكمة الدستورية فلم يكن ممكنًا حصوله بحكم غيابه وغياب المؤسسة التي يرأسها.

وعلى مستوى الصلاحيات، يتعلق الجدل بطبيعة الإجراءات الاستثنائية وحدود الصلاحيات الممنوحة للرئيس بمقتضى الفصل 80. فالفصل صريح في التنصيص على ضرورة بقاء مجلس الشعب منعقدًا أثناء الفترة الاستثنائية، بينما عطَّل الرئيس انعقاد البرلمان وأغلقه أمام النواب ووضع على بوابته قفلًا ودبابة عسكرية. وليس في الدستور ما يمنح الرئيس الحق في رفع الحصانة عن النواب؛ إذ البرلمان وحده مخوَّل بهذه الصلاحية دون غيره. كما أن الدستور، الذي يؤكد على فصل السلطات، لا يعطي الحق لرئيس السلطة التنفيذية في تولي النيابة العامة التي هي من اختصاصات السلطة القضائية…

الخلاصة حاليا هي أن رئيس الجمهورية ذاهب في تمشي نحو ارساء نظام سياسي جديد للبلاد ( التنظيم القاعدي) و هو النظام السياسي الذي يراه الرئيس الأنسب ليلبي طموحاته و رأيته

__________________________________________________________

Mribah Mondher, titulaire du diplôme national en Droit public de la Faculté des Sciences Juridiques, Politiques et Sociales de Tunis.